قيم الثورة الفرنسيّة الّتي أسقطتها الجغرافيا المحاصرة | شهادة

من التظاهرات ضدّ الحرب على غزّة في باريس، 17/12/2023 | توماس سامسون.

 

على بُعْد أمتار من بيتي في مدينة فرساي الفرنسيّة، أشاهد النصب التذكاريّ للويس الرابع عشر، ممتطيًا جواده الأغرّ الّذي جعله النصب يصهل ويرفع حافريه الأماميّين، قبل أن تشنقه خلطة الأسفلت المسلّح الرماديّة اللون - كأيّامنا هذه منذ ما يزيد عن 130 يومًا - على هذه الهيئة. هكذا يلوح جزء من تاريخ فرنسا العظيم في عاصمته القديمة فرساي. العاصمة الّتي عرفت أشهر معاهدة سلام عفّرت أنف جارتها ألمانيا في التراب، وكبحت لهيب الحرب العالميّة الأولى المستعرة وقتذاك، بيد أنّها مثل كلّ معاهدات السلام الزائفة، أخفت جنينًا هجينًا من الأحقاد سيشعل فتيل الحرب العالميّة الثانية. الحرب الّتي سينكّل فيها هتلر بيهود أوروبّا الّذين ينكّلون بشعبنا الفلسطينيّ اليوم بنفس الذريعة. والتاريخ - على رأي العلّامة ابن خلدون - ديوان فيه المبتدأ والخبر، وقطاع غزّة اليوم هو المبتدأ، وهو الخبر.

 

لو كان الشدياق حيًّا

يخامرني السؤال المحرج الأوّل: لماذا تتساقط عليّ هذه التواريخ البالية اليوم، بينما أحتسي قهوتي الصباحيّة في شرفة بيتي مثل مناشير الرعب الّتي تُسْقِطُها طائرات الأباتشي الأمريكيّة المأجورة على السكّان المدنيّين الآمنين في قطاع غزّة؟ أزيح الساق عن الساق، وأقول في سرّي: إنّ التاريخ الّذي لا يرحم لديه قدرة عجيبة على السخرية من أبطاله السابقين، الّذين يتشدّقون علينا اليوم بقيم الجمهوريّة، والحال أنّهم يرتعبون من رؤية علم رباعيّ الألوان تكالبت عليه كلّ قوى العالم، وعلى شعبه الأعزل في الأراضي المحتلّة عام 1948 كما في الضفّة الغربيّة، فضلًا على الإبادة الجماعيّة الفاضحة المستمرّة منذ ما يزيد عن 120 يومًا في القطاع المحاصر منذ أكثر من سبعة عشر عامًا.

ثمّ يتدحرج السؤال الثاني؛ ليستقرّ من أكثر عروق رأسي وضوحًا على أرنبة أنفي الواضح كمعادلة الصراع: ماذا نفعل نحن معشر الجالية العربيّة في فرنسا، أو في سائر الدول الغربيّة، وقد وهن العظم منّا أملًا في تسوية إقامة تحفظ كرامتنا، بعد سنوات غربة طويلة أمعنت الدولة خلالها ببيروقراطيّتها المقيتة في إذلالنا على عتبات مخافرها؟ ماذا سنفعل بعد السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، في دولة تتحفّظ على حقّنا في التعبير الصريح عن مبادئنا وعن مواقفنا، في نفس الوقت الّذي تفاخر فيه بإضافتها، على سبيل المثال لا الحصر، قيمة أخرى رابعة إلى قيمها الثلاث الجوهريّة: الأخوّة والعدالة والحرّيّة؟

لو كان فارس الشدياق حيًّا لأهدى نسخته المنقّحة بعد سقوط ورقة التوت عن حصان لويس الرابع عشر، كما عن قيم الجمهوريّة العتيدة، إلى شهداء قطاع غزّة الّذين جاوز عددهم ثلاثين ألفًا...

أعيد الساق على الساق - ولو كنت أمجّ السجائر لأشعلت واحدة ليعبّر دخانها عن ضبابيّة المشهد المغبّش أمامي – وتذكّرت، بينما أرفع واحدة على واحدة، كتاب فارس الشدياق الّذي يحمل عنوان ذات الحركة الّتي كنت بصدد إتيانها. فلو كان الشدياق بيننا اليوم، لعدّل فصولًا كثيرة في كتابه المشهور الّذي كان ثمرة رحلته في أوروبّا، وفي فرنسا على وجه الخصوص، مبهورًا بثقافتها ومعمارها وقيمها وأخلاق شعبها. ولو كان فارس الشدياق حيًّا لأهدى نسخته المنقّحة بعد سقوط ورقة التوت عن حصان لويس الرابع عشر، كما عن قيم الجمهوريّة العتيدة، إلى شهداء قطاع غزّة الّذين جاوز عددهم ثلاثين ألفًا أمام مرأى العالم وتحت مسامعه، في حين ما برح يناقش إسناد فعل الإرهاب من عدمه إلى جهة بعينها، بدلًا من إيقاف طاحونة الإبادة الّتي هجّرت قسرًا نصف سكّان القطاع إلى الجنوب، وشرّدتهم في مراكز الإيواء؛ فسهُل استهدافهم بالطائرات الّتي لا تنفكّ تعضّهم، على رأي شاعر فلسطينيّ آفل.

وأنا التونسيّة الّتي سرت بين التفاصيل أتّبع حلمًا ما زال بعيدًا عن تحقيق الذات وبعض الأدب - من الكتب طبعًا - أنا التونسيّة الّتي تعبّر خريطة فلسطين المعلّقة على صدرها عن عروبتها، وعن قضيّتها الأمّ الّتي تحيا من أجلها، وأنا التونسيّة الّتي أنهكها إذلال مخافر الشرطة لها لتجدّد إقامتها المؤقّتة على التراب الفرنسيّ كلّ سنة، أسأل نفسي من شرفة في الطابق الثالث: لماذا يتعيّن على المهاجرين أن يضيفوا إلى قائمة معاناتهم إجبارهم على الصمت حيال ما يحصل في قطاع غزّة - وفي الضفّة الغربيّة أيضًا، الّتي سقط فيها مئات من الشهداء منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، والّتي تجاوز عدد الأسرى فيها منذ التاريخ ذاته - أو كاد - عدد الأسرى في سجون الاستعمار قبل عمليّة «طوفان الأقصى»؟

أيّ إذلال يمكن أن نعيشه هنا، نحن المهاجرين في فرنسا مثال الحال، أكثر من منعنا من رفع علم فلسطين في الشوارع تنديدًا بالإبادة؟ بل وصل الأمر إلى مقايضتنا بملفّات الإقامة وتجديدها في حال أمسكَنا شرطيّ أبيض اللون أزرق العينين يرطن بالفرنسيّة، واعتبر أنّ لوننا القمحيّ دليل إدانة كافٍ على "تهديدنا أمن فرنسا"، وتاليًا إمكانيّة ترحيلنا أو تغريمنا في أفضل الحالات. هل تتصوّرون أنّ مداخيل الضرائب تنفّست الصعداء بعدما غُرِّم كلّ مَنْ تظاهر من أجل فلسطين، وكلّ مَنْ رفع علم فلسطين دون أن تكون المظاهرة مصرَّحة؟ وهل يتقبّل العقل أنّ التنديد بالإبادة الّتي لم تتوقّف إلى تاريخ هذه السطور يحتاج إلى رفع طلب خاصّ واجتماع، قبل أن يوافق المخفر على تصريح يسمح بالهتاف تحت المطر والبرد: "أوقفوا الإبادة"، في واحدة من أقدم الدول المنادية بالحرّيّات وشعلة التنوير والنهضة الأوروبّيّة؟ لقد صار حبّ فلسطين تهمة تستوجب المحاكمة إذا لزم الأمر في فرنسا.

 

حرمان

تمزّق هذه الأسئلة خلايا رأسي منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) حتّى اليوم، كما تمزّق القذائف أجساد الأطفال في قطاع غزّة. ولا أجانب الصواب إن قلت إنّها تمزّق خلايا الجالية العربيّة الممتدّة هنا في فرنسا من كلّ مشارب الأرض، بل المتشعّبة في كلّ أوروبّا. لماذا جئنا؟ ومن أجل أيّ قيم لجأنا إلى الديمقراطيّات العتيدة هنا في فرنسا إذا صرنا بعد سنوات طويلة - في نظري على الأقلّ - غير قادرين على رفع علم دون ملاحقة أمنيّة؟ ومن باب سخرية القدر دائمًا أنّنا في تونس قبل تاريخ 2011 - وهو تاريخ الثورة فيها - كنّا نعاني ذات الأمر من البوليس التونسيّ الّذي يحاصر المتظاهرين، وينكّل بالّذين يخرجون تنديدًا بكلّ مجزرة في فلسطين، وفي قطاع غزّة تحديدًا، أو في مسيرة «يوم الأرض».

يبدو أنّ قدرنا أن نعيش ذات المحنة هنا في الغربة القاتمة. ولعلّه من سخرية القدر كذلك أنّني انتعشت خلال زيارتي الأخيرة إلى تونس نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، برؤية أعلام فلسطين في كلّ مكان: في المقاهي، وفي الشوارع، وعلى دكّان بائع الخضار والفواكه، وغرافيتي الحائط في المدن الشعبيّة، وعلى سيّارات السرفيس المتنقّل بين المدن. بل أبدع حرفيّو سوق الصاغة في حفر كلّ أسماء المدن الفلسطينيّة على الخارطة التاريخيّة لفلسطين، وصنعوا قلائد من الفضّة أهديت نفسي واحدة منها من المدينة العربيّة، في إشارة إلى البلدة القديمة في تونس كما نسمّيها.

دفعني الحرمان الّذي عشته في فرنسا إلى أن أهدي ذاتي الإنسانيّة المختنقة بأسئلة وجوديّة كبرى، فرضتها الحرب على قطاع غزّة عليّ مهاجرةً، قلادة فلسطين بكلّ مدنها وقراها، بديلًا من القلادة الّتي أضعها منذ سنوات دون أن تحفر فضّتها المدن المستباحة. كانت تعويضًا عن الحرمان من سيميائيّة مماثلة في فرنسا، حتّى أنّني وثّقت كلّ ما عثرت عليه عيناي من صور في هاتفي كأنّي سائحة ترى مشاهد غير مألوفة، وقد كنت في زيارة إلى بلدي.

قد أسقطت رقعة جغرافيّة محاصَرة قيم الثورة الفرنسيّة الّتي تدّعي الأخوّة، فكيف تتجلّى مقولة الأخوّة في عالم يهلك؟ عالم توّاق إلى رائحة الدم المنبعثة من قطاع غزّة؟

لا أقدّم هنا خطابًا متباكيًا؛ فوقائع الأرض في قطاع غزّة تجيب عن أسئلة كثيرة متوارية لا يُسْمَح بالتفكير فيها بصوت عالٍ أيضًا هنا على أرض جون بول سارتر، وموليير، وبلزاك، وسيمون دو بوفوار. بل إنّ وقائع الأرض تمسح الدموع، وتمسح عار الذلّ الّذي نشعر به على أعتاب المخافر الّتي نستجديها إقامة مؤقّتة كلّ سنة مع رسوم جبائيّة، تأخذ في التضخّم كلّما شعرت خوارزميّات المخافر ذاتها بأنّ عدد المقبلين على تجديد الإقامة يتزايد؛ فهل علينا أن نستجدي تصريحًا في حبّ فلسطين؟ أخشى أن أكتب "الانتصار لقضيّة عادلة" فتحاكمني الدولة، وتتّهمني بالتطرّف فتسحب إقامتي!

 

القيم الّتي سقطت

لقد أسقطت رقعة جغرافيّة محاصَرة قيم الثورة الفرنسيّة الّتي تدّعي الأخوّة، فكيف تتجلّى مقولة الأخوّة في عالم يهلك؟ عالم توّاق إلى رائحة الدم المنبعثة من قطاع غزّة؟ عالم يستطيع أن يزيّن شجرة الميلاد، ويحتفل بأخوّته على حساب الدم المُراق؟ لقد كان الذئب دائمًا أرحم من الإخوة.

من قيم الثورة أيضًا الحرّيّة. وأنّى للحرّيّة أن تنجلي والموقف الرسميّ يمنع مقولة التضامن من أن تحكّ صوّان الدفء في جسد قطاع غزّة المنهك من الخذلان العربيّ، ومن الحصار، ومن الغارات؟ التضامن جزء من معاني الحرّيّة المنشودة والمفقودة اليوم في فرنسا، والتضامن أو الحرّيّة سيّان - بهذا المعنى - ليس إنسانيًّا هنا في فرنسا. إنّه تضامن مشروط، ولكم في مثال أوكرانيا وحربها خير دليل. بل إنّني شاهدت جزءًا كاملًا من مخفر الشرطة الّذي أجدّد إقامتي فيه كلّ سنة، مخصّصًا للأوكرانيّين النازحين. وليس عليهم إتقان الفرنسيّة حتّى ينالوا حقّهم في اللجوء والعيش الكريم؛ فعلم أوكرانيا المرفرف داخل المخفر الفرنسيّ دليلهم ودليل عليهم. بل إنّه على بُعْد أمتار من بيتي، يضع أحد الجيران على نافذة شرفته علم أوكرانيا، وأنا على بُعْد ذات الأمتار محرومة من وضع علم فلسطين على نفس الشرفة، وانطلاقًا من نفس المبدأ: حرّيّة التعبير! فالخشية أن يبلّغ عنّي أحد الجيران بلاغًا يكتب فيه أنّني ضدّ الساميّة أو أشكّل خطرًا على سكّان البناية؛ فهل أشدّ من هذا رعبًا؟ يذكّرني هذا الرعب بمنع الأعلام الفلسطينيّة في أراضي 48 والقدس المحتلَّين.

فماذا نفعل في دولة تضمر عكس ما تظهر من قيم؟ يجرحني السؤال ويحرج إنسانيّتي الّتي تحاول الصمود في الزمن الصعب، وفي أوج المعادلة الصعبة. الكلّ - أقصد من سلالة الجالية الكثيفة - يرقب المشهد ويحسب خطواته؛ ففرنسا التاريخيّة أمرت أن يُفْرَج عن الفيلسوف الفرنسيّ جون بول سارتر، حين أمسكه مناديب السلطة يتظاهر ضدّ الحرب على الجزائر، وقيلت الجملة الشهيرة في حقّه "أفرجوا عنه؛ فهو روح البلاد". حين كانت للحرّيّة في دولة التنوير معنًى، وحين كان للمثقّف قيمة، ولحرّيّة التعبير وزن محفوظ. وهذه فرنسا الّتي قرأت عنها ونهلت من أدبها، لا فرنسا الّتي تحكم القيد على أفكارنا ومعاصمنا.

أحاول أن أتفادى الخوض في أيّ موضوع مع طلبتي حين يتعلّق بالحرب على قطاع غزّة، رغم خريطة فلسطين النافرة أمامهم، الّتي لم أخفها يومًا ولن أفعل. أتحاشى حتّى الإجابة عن أسئلتهم إذا ما سمح لهم سياق الدرس بطرحها. وأعترف أنّني مرّة طلبت منهم تحرير جمل بأفعال انتقيتها من النصّ الّذي شرحناه؛ أملًا في تنمية زادهم اللغويّ وجهازهم الاصطلاحيّ؛ فما كان من أحدهم إلّا أن وظّف الفعل في خدمة فكرته النبيلة؛ لتكون الجملة عن قطاع غزّة وصمودها. أصلحت التركيب الخاطئ ببرود، كأنّ الجملة عاديّة لا تغلي ببركان أسئلة عميقة، بيد أنّني وسط عمليّة الإصلاح زلّ لساني قليلًا فلكزني تعليق طالبة بالفرنسيّة "مدام، للحيطان آذان". كانت جملة دقيقة وصارمة، قصيرة وحادّة مثل الرصاصة؛ فهل أكثر من هذا إذلالًا؟ أن تُجْبَر على كبح حقّ جيل آخر في التعبير بعد أن تصادر بنفسك حقّك في التعبير؛ لأنّك تحت راية دولة ترى في التنديد بالإبادة اعترافًا بجهة لا تعترف هي بها؟ إنّ هذا الأمر أشبه بالهدم الذاتيّ الّذي يجبر أهل سلوان أو سلواد أو القدس على هدم بيوتهم الّتي أفنوا عمرًا في تشييدها بأيديهم؛ لأنّ إخطار الاحتلال ينذر بغرامات ثقيلة، وإخطار الطالبة تلك ينذر بعقوبات كثيرة محتملة.

سقطت ورقة التوت، عن كلّ حكّام أوروبّا الأنيقين في بدلاتهم الراقية الباهظة، والغارقين في عطورهم الباذخة، وسقطت عنّا ورقة التوت الّتي أخفت ردحًا من الزمن انبهارنا بقيم الرجل الأبيض، ونحن نرى الأثمان الباهظة الّتي يدفعها عنّا الغزّيّون - وهذا أمرّ ما في الغربة في هذه اللحظة الممتدّة منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) - الغارقون في دماء أبنائهم وأمّهاتهم وآبائهم. بل سقطت ورقة التوت أيضًا على الأثمان الّتي سيجيء دورنا فندفعها، خاصّة بعد قانون الهجرة الجديد الّذي عمّده اليمين الفرنسيّ والعالم منشغل بمذابح قطاع غزّة. القانون الّذي سيجعلنا ندفع أثمانًا لا تتعلّق فقط بمواقف تشجب الإبادة المستمرّة، بل تهدّد أيّ كيان مهاجر، منذ الآن فصاعدًا لا تجري في عروقه دماء فرنسيّة خالصة.

لم تمشِ المجنزرات على أجساد الضحايا المدنيّين، ولم يمشِ كهل واحد عاريًا في شوارع قطاع غزّة؛ فأتوا بالشمس من المغرب قبل اتّهام ضحايا المحارق بارتكاب المحارق، ورسم نجومهم على جماجم أطفالنا.

أمّا القيمة الثالثة، العدالة، فلها في أدراج النسيان مستقرّ إلى حين؛ لأنّها عدالة مشروطة بجماليّة الصورة الّتي يقدّمها اللسان اللاتينيّ بتشعّباته اللغويّة الكثيرة؛ فالطائرات المقاتلة بعد انتهاء الحرب ستعترف بأنّها أغارت بشكل طفيف على أهداف وقد دفعتها الحمية إلى ذلك. أمّا مناظر الجثث المعروضة للكاميرا والذباب فليست سوى دمًى من إنتاج المخيال الفلسطينيّ النضر. ألم يقولوا ذلك منذ مدّة؟ وأمّا الهياكل العظميّة المتحلّلة فليست إلّا صورة عن البطولة الفلسطينيّة المتحلّلة الّتي حبست نفسها فيها منذ النكبة.

لم تمشِ المجنزرات على أجساد الضحايا المدنيّين، ولم يمشِ كهل واحد عاريًا في شوارع قطاع غزّة؛ فأتوا بالشمس من المغرب قبل اتّهام ضحايا المحارق بارتكاب المحارق، ورسم نجومهم على جماجم أطفالنا.

 

في باريس، كأنّني في القدس

تسترسل هذه السرديّات الّتي عشتها منذ شهرين تقريبًا مثل نزيف لا يتوقّف، وتنهمر عليّ المواقف الصعبة الّتي تعرّضت إليها مهاجرةً عربيّة في فرنسا. لقد اضطررت في واحدة من مسيرات السبت الدوريّة أن أخبّئ الكوفيّة الفلسطينيّة تحت المعطف؛ لأنّني انتبهت إلى وجود أفراد شرطة عند فتحة نفق المترو الّذي سأخرج منه إلى المسيرة، وانتبهت أنّهم يفتّشون حقائب كلّ مَنْ يخرج.

شعرت للحظة أنّني في القدس، وأنّهم خيّالة الاحتلال الّتي تنكّل بالمقدسيّين على مشارف باب العمود، أو باب الساهرة، أو باب حطّة. وليس هذا فحسب، يومذاك منعوا المظاهرة قبيل خروجها بوقت وجيز، غير أنّ الناس كانوا قد تجمّعوا، وأغلبهم لم يعرف عن إلغائها شيئًا، فطوّقوا التجمّعات لئلّا تخرج المسيرة، ثمّ حاصروا المتظاهرين حتّى الساعة التاسعة ليلًا، وغرّموا كلّ واحد على حدة قبل أن يُسْمَح له بالمغادرة، لولا تدخّل بعض النوّاب الّذين وفدوا وفاوضوا الشرطة على إخلاء سبيل المتظاهرين دون تغريم مَنْ تبقّى منهم. استطعت آنذاك أن أراوغ الشرطيّ؛ فاستعملت بطاقة الصحافيّ، وخبّأت مرّة أخرى الكوفيّة داخل الحقيبة، وخرجت دون غرامة. لم تكن الغرامة ترهبني في حدّ ذاتها. كنت أخشى أن يصبح اسمي مكشوفًا لديهم - لأنّهم يأخذون نسخة من بطاقة الهويّة - وذلك تهديد واضح لطلب الإقامة القادم.

هذه التفاصيل لا تطرح فقط أسئلة وجوديّة في داخلك، بل تجعلك تقرف من جسمك ومن كيانك؛ لأنّك اضطررت إلى المراوغة، أو اضطررت إلى الاختباء في حمّام مطعم هنديّ بعد المسيرة، كما حصل مع صديقة. إنّهم هنا باسم القيم الّتي ترفرف فوق بلديّاتهم ودور ثقافتهم ومكتباتهم، وكلّ مؤسّساتهم الرسميّة يحاولون تجريدك من هويّتك الطبيعيّة، الّتي تنصهر في مشروع احتجاج على إبادة تنام وتفيق عليها منذ شهرين، وأنت ترى الناس - أعني الفرنسيّين - يواصلون حياتهم بشكل طبيعيّ في المترو كما في العمل وفي المحلّات التجاريّة.

أنت فقط مَنْ لم ينم جيّدًا منذ شهرين، وأنت فقط مَنْ لا رغبة لك في النظر إلى المرآة قبل الخروج القسريّ أيضًا إلى العمل. نفر الدم من أنفي بشدّة مرّة في العمل، فحملوني إلى طبيبة الشغل، الّتي فحصت الضغط وهي تنظر إليّ بحنوّ، وتقول: "هل نزل ضغطك بسبب ما يحصل في إسرائيل؟".

لاحظوا معي المشهد: أنا على سرير الطبيب في عيادة العمل - حيث لا نتحدّث بحرّيّة أيضًا عن آرائنا - ومناديل كثيرة حولي ملطّخة بالدماء، ويدي في قبضة آلة الضغط، والطبيبة الفرنسيّة تسألني بحنان مبالغ فيه إن كان ضغطًا بسبب أهوال ما حصل في إسرائيل. ولن تستطيع أن تحرّك ساكنًا. أشحت بوجهي عنها، كانت ’لا‘ المحايدة والباردة كافية.

يحاولون تجريدك من هويّتك الطبيعيّة، الّتي تنصهر في مشروع احتجاج على إبادة تنام وتفيق عليها منذ شهرين، وأنت ترى الناس - أعني الفرنسيّين - يواصلون حياتهم بشكل طبيعيّ

خلقت الحرب على قطاع غزّة أزمة قيم في أوروبّا. لم يتفاجأ بها عرب أوروبّا وحدهم، بل أقول إنّهم توقّعوها، غير أنّ المفاجئ شدّتها وفجاجتها البارزة، بل فاجأت الفرنسيّين أنفسهم الّذين اكتشفوا الفارق الشاسع بين القيم الّتي يعلّمونها لأبنائهم عن تاريخ دولتهم، وبين وقائع الأرض الّتي عرّضت عددًا كبيرًا منهم للسحل والاعتقال والتنكيل، في باريس كما في بوردو، وفي رين أو سواها من المدن.

لم تخلق الحرب على قطاع غزّة أزمة قيم فقط. لقد كشفت عنصريّة شرائح كثيرة من طبقات المجتمع الفرنسيّ؛ فما الفرق بين مطاردة موعد لتجديد الإقامة، الّذي يُفْتَح يومًا واحدًا في الأسبوع في ساعة مبكّرة، ولدقائق معدودة، وبين جهاز (GOvisit)، الّذي يُطارد المقدسيّون من منصّاته موعدًا لتجديد إقامتهم؟ وما الفرق بين نعوت نابية، تسمعها من فرنسيّ في القطار يصرخ بأنّه يقرف من لغتك دون سابق إنذار، ودون أن تكونا قد التقيتما قبل تلك الرحلة، وبين متطرّف صهيونيّ يبصق في وجه راهبة فلسطينيّة تمرّ في صمت بأحد شوارع القدس؟ وما الفرق بين التهديد بالسجن لمَنْ يتضامن مع حقّ الفلسطينيّين في النضال من أجل التحرّر بكلّ الوسائل المقرّة دوليًّا - وقد قيل ذلك علنًا، والفيديو موجود حتّى اليوم - وبين مَنْ يصدر في حقّك اعتقالًا إداريًّا دون محاكمة؟

وأمّا ما قد يُعَدّ إشادةً بالفلسطينيّين ومقاومتهم من جانب أيّ مقيم فيقابله "الدفاع عن النفس"، الّذي يجعل «برج إيفل» يتّشح بالعلم الإسرائيليّ منذ أُذِن للطائرات أن تنهش أجساد الأطفال، ويجعل وسائل الإعلام لا تنتبه إلى هول الإبادة، حتّى أنّ صورة أمّ فلسطينيّة تحضن جثمان ابنها في صورة تقشعرّ لها الأبدان، تبدو للإعلام هنا "صور دمًى لا تمتّ إلى الواقع بصلة".

وما الفرق بين التهديد الصريح - بعد أن كان ناعمًا - بسحب الإقامة وبين حرب سحب الإقامة من المقدسيّين، وليس آخرهم العزيز صلاح حمّوري؟ وما الفرق بين منعك من ارتداء الكوفيّة في الشارع - قبل سنوات كنت أضعها بلا مناسبة وبلا رقيب في نفس البلد - وبين حاجز إسرائيليّ يفتّش أطفال المدارس في الخليل، بل يجبر بعضهم على خلع بلوزته؛ فقط لأنّه يشكّ في إيحاءات "تضرّ بدولة إسرائيل". لقد تردّدت كثيرًا قبل أن أكتب هذه الشهادة؛ فقد يكون ثمنها الامتناع عن تسوية وضعيّة إقامتي الّتي أنتظرها منذ ثلاث سنوات. غير أنّني أمام الأثمان الّتي أشاهد قطاع غزّة تدفعها كلّ يوم، لا أستطيع المرور عنها دون تدوينها. وهذا غيض من فيض.

لقد أسقطت الحرب على قطاع غزّة منظومة القيم الكونيّة الّتي تنادي بها الديمقراطيّات العتيدة في أوروبّا. أسقطت أكذوبة حقوق الإنسان، وأسقطت ازدواجيّة الخطاب عن حرّيّة التعبير، فضلًا على حرّيّة الصحافة. والأمر لا يقتصر فقط على القارّة العجوز، بل يمتدّ إلى قارّات أخرى يذكي لديها الطيران الحربيّ المبيد رائحة دماء قديمة، شيّدوا على جماجمها كيانهم، وجلسوا يسطّرون «ميثاق حقوق الإنسان».

 

كأنّها حفلة تنكّريّة

هذه شهادتي الحيّة عمّا عاينته منذ بدء الأحداث. وما لم أكتبه - نظرًا إلى ضيق المساحة - أكثر ممّا فاض هنا على جوانب المتن؛ فإذا لم نكتب عن هذه المذبحة المترامية الأطراف من قطاع غزّة، حيث تسقط الأجساد إلى شوارع العالم حيث يحاولون إسقاط الأفكار، سيموت الحقّ الفلسطينيّ في الحلم، في أن يحلم في ما بعد الحرب. وفي الرجوع إلى الذاكرة الّتي تطلق حشرجتها عن الماء، والماء أمام كلّ أدوات القتل الذكيّة والبدائيّة الّتي يصوّبها العالم ضدّها. وإن لم نكتب هنا في هذا الوقت، فلن يفيدنا النظر الطويل في عيون الأطفال المذبوحين.

أسقط قطاع غزّة القيم الكونيّة المهترئة والكاذبة، كأنّها حفلة تنكّريّة بليدة انتهى وقتها وزمانها. وصار القطاع بجروحه وبخذلان العالم له؛ العربيّ والغربيّ، كونًا فريدًا يبشّر بمجرّة من الحرّيّة المأمولة.

لقد اعتبر النقد العربيّ طويلًا أنّ رواية «الساق على الساق» (1855)، الّتي قفزت من درج ذاكرتي بينما أكتب اليوم هذه المقالة أوّل رواية عربيّة. أخذهم سجعها وجمال تركيبها، ورأوا في متانة لغتها حفاظًا على اللغة العربيّة؛ فوسموها بأوّل رواية. وربّما أدهشتهم التورية في العنوان؛ فالساق ساق تُسْنَد إلى البشر عكس الدوابّ، والساق في اللغة ذكر الحمام، والساق الغصن أيضًا. وبقيت التورية مفتوحة على الاحتمال، مثل القبور الّتي جرّفتها الدبّابات الإسرائيليّة؛ أقَصَد الشدياق ساقًا على الساق، أم قصد إلى ذكر الحمام؛ رمز السلام، واقفًا بإباء على الغصن؟

إنّ المعنى الأوّل أشرف من الثاني بالنسبة إلى السرديّة الفلسطينيّة الّتي أسقطت الجرّافات كلّ أغصان زيتونها، بينما صدّق سلام أوسلو أن يرفعه عنها الحمام؛ دليل سلام دائم. هل السلام ممكن بعد ثلاثين ألف روح أُزْهِقَتْ؟

لقد أسقط قطاع غزّة القيم الكونيّة المهترئة والكاذبة، كأنّها حفلة تنكّريّة بليدة انتهى وقتها وزمانها. وصار القطاع بجروحه وبخذلان العالم له؛ العربيّ والغربيّ، كونًا فريدًا يبشّر بمجرّة من الحرّيّة المأمولة.

وهذه فعلًا رواية حقيقيّة واقعيّة.

 


 

إشراق كرونة

 

 

 

كاتبة تونسيّة، باحثة وطالبة دكتوراة، وأستاذة في «جامعة ليون»، فرنسا، وتكتب في الأدب العربيّ في عدد من المجلّات الثقافيّة.